فصل: تفسير الآيات رقم (55- 75)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 75‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذا الدرس الأخير من سورة الأنفال يتضمن الكثير من قواعد التعامل مع المعسكرات المتنوعة في السلم والحرب؛ والتنظيمات الداخلية للمجتمع الإسلامي وعلاقته بالمنظمات الخارجية؛ ونظرة الإسلام إلى العهود والمواثيق في شتى الأحوال؛ ونظرته كذلك إلى علاقات الدم والجنس والأرض وعلاقات العقيدة‏.‏

ومنه تتبين عدة قواعد وأحكام بعضها نهائي في موضوعه؛ وبعضها مرحلي كان يواجه أحوالاً معينة واقعة، ثم أدخلت عليه التعديلات النهائية المستقرة في سورة التوبة قرب نهاية العهد المدني‏.‏

ومن بين هذه القواعد والأحكام حسب ورودها في السياق القرآني‏:‏

* أن الذين يعاهدون المعسكر الإسلامي، ثم يخلفون عهدهم معه هم شر الدواب‏.‏‏.‏ ومن ثم ينبغي أن يؤدبهم المعسكر الإسلامي تأديباً يلحظ فيه الإرهاب الذي يشردهم ويشرد من وراءهم ممن تراودهم نية نقض العهد أو نية مهاجمة المعسكر الإسلامي‏.‏

* أن المعاهدين الذين تخشى القيادة منهم نقض العهد والخيانة؛ فإن لهذه القيادة أن تنبذ إليهم عهدهم، وتعلنهم بإلغائه‏.‏ ومن ثم تصبح في حل من قتالهم وتأديبهم وإرهاب من وراءهم من أمثالهم‏.‏

* أنه يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائماً واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة؛ لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض؛ التي ترهبها جميع القوى المبطلة؛ والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض، فتهاب أولاً أن تهاجم دار الإسلام؛ وتستسلم كذلك لسلطان الله فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة، ولا تصد أحداً من أهلها عن الاستجابة، ولا تدعي حق الحاكمية وتعبيد الناس، حتى يكون الدين كله لله‏.‏

* أنه إذا جنح فريق من غيرالمسلمين إلى مسالمة المعسكر الإسلامي وموادعته وعدم الوقوف في وجهه فإن القيادة الإسلامية تقبل منهم المسالمة، وتعاهدهم عليها‏.‏ فإن أضمروا الخديعة ولم يبد في الظاهر ما يدل عليها، ترك أمرهم إلى الله، وهو يكفي المسلمين شر الخادعين‏.‏

* أن الجهاد فريضة على المسلمين حتى لو كان عدد أعدائهم أضعاف عددهم‏.‏ وأنهم منصورون بعون الله على أعدائهم، وأن الواحد منهم كفء لعشرة من الأعداء، وكفء لاثنين في أضعف الحالات وفريضة الجهاد إذن لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم؛ فحسب المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى، وأن يثقوا بالله، وأن يثبتوا في المعركة، ويصبروا عليها؛ والبقية على الله‏.‏ ذلك أنهم يملكون قوة أخرى غير القوى المادية الظاهرة‏.‏‏.‏

* أن المعسكر الإسلامي يجب أن يكون همه ابتداء القضاء على قوة الطاغوت بتحطيم كل أسباب القوة‏.‏ فإذا كان أسر المقاتلين وفداؤهم لا يحقق هذه الغاية، فإن هذا الإجراء يستبعد‏.‏‏.‏ ذلك أنه لا يكون للرسل وأتباعهم أسرى إلا بعد أن يثخنوا في الأرض، فيدمروا قوة عدوهم، ويستعلوا هم في الأرض ويتمكنوا بقوتهم؛ وعندئذ لا يكون هناك من بأس في أخذ الأسرى وفدائهم‏.‏

أما قبل ذلك فالتقتيل في المعركة أولى وأجدى‏.‏

* أن الغنائم حل للمسلمين في المعركة من أموال المشركين‏.‏ كما أحل لهم أن يأخذوا فدية الأسرى بعد أن يثخنوا في الأرض ويتمكنوا فيها ويخضدوا شوكة عدوهم ويحطموها‏.‏

* أن الأسرى في المعسكر المسلم ينبغي أن يرغبوا في الإسلام‏.‏ بوعد الله لهم أن يعطيهم خيراً مما أخذ منهم من الغنيمة أو الفداء‏.‏ مع تحذيرهم من الخيانة ببأس الله الذي أمكن منهم أول مرة‏.‏

* أن آصرة التجمع في المجتمع الإسلامي هي العقيدة؛ ولكن الولاء في هذا المجتمع لا يكون إلا على أساس العقيدة والتنظيم الحركي معاً، فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض‏.‏ أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الإسلام، فلا ولاء بينهم وبين المعسكر المسلم في دار الإسلام‏.‏‏.‏ أي لا تناصر ولا تكافل‏.‏‏.‏ ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم؛ وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد‏.‏

* أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي، لا يمنع أن يكون أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض؛ فيكونوا أقرب في الولاء- متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي- فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي‏.‏

هذه- على وجه الإجمال- هي المبادئ والقواعد التي يتضمنها هذا الدرس؛ وهي تمثل جملة صالحة من قواعد النظام الإسلامي الداخلي والخارجي‏.‏‏.‏ وسنحاول أن نتناولها بشيء من التفصيل في مواجهة النصوص القرآنية‏:‏

‏{‏إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون‏.‏ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة، وهم لا يتقون‏.‏ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون‏.‏ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين‏.‏ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا، إنهم لا يعجزون‏.‏ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏.‏ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم‏.‏ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة، عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة؛ وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة‏.‏

وهي تمثل إحدى قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى‏.‏ ولم تدخل عليها إلا تكملات وتعديلات جانبية فيما بعد؛ ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية‏.‏

إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة؛ ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها؛ مع إعطاء هذه العهود الاحترام الكامل والجدية الحقيقية‏.‏ فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر؛ ويستعد للمبادأة والشر؛ فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود، وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ؛ وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين‏.‏‏.‏ على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سراً أو جهراً‏!‏‏.‏‏.‏ فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي؛ ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية، أو الحيلولة دون وصولها إلى كل سمع؛ فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها‏.‏

وهذه- كما هو ظاهر- مواجهة عملية واقعية لحالات عملية واقعية في العلاقات بين المعسكرات المتجاورة؛ لا ترفض الموادعة- متى تحقق للدعوة الإسلامية الأمان الحقيقي وزوال العقبات المادية من طريقها وهي تتحرك لتبلغ الأسماع والقلوب- وفي الوقت ذاته لا تسمح أن تكون عهود الموادعة ستاراً للأعداء، وترساً يتترسون به لضرب المجتمع المسلم غيلة وغدراً‏.‏

أما الحالة الواقعة التي كانت هذه النصوص تواجهها في مجتمع المدينة يومذاك، فقد نشأت من الظروف التي واجهتها القيادة المسلمة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة، والتي يلخصها الإمام ابن القيم في زاد المعاد بقوله‏:‏ «ولما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام‏:‏ قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه- وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم- وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة‏.‏ وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه‏.‏ بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه‏.‏‏.‏ ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن‏.‏ ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم‏.‏ ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى»‏.‏‏.‏

وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة؛ وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة‏.‏ كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة‏.‏

وظاهر أن هذه الأوضاع لم تكن إلا أوضاعاً موقتة، تواجه أحوالاً واقعة؛ ولم تكن أحكاماً نهائية في العلاقات الدولية الإسلامية؛ وأنها عدلت فيما بعد تعديلات متوالية، حتى استقرت في الأحكام التي نزلت في سورة براءة‏.‏

وهذه المراحل التي مرت بها هذه العلاقات سبق في الجزء التاسع أن نقلنا لها تلخيصاً جيداً للإمام ابن القيم في زاد المعاد‏.‏ ولا نرى بأساً من إعادة هذا التلخيص هنا لضرورته‏:‏

«فصل في ترتيب سياق هديه ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل‏.‏‏.‏ أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى‏:‏ أن يقرأ باسم ربه الذي خلق‏.‏ وذلك أول نبوته‏.‏ فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ‏.‏ ثم أنزل عليه‏:‏ ‏{‏يا أيها المدثر‏.‏ قم فأنذر‏}‏ فنبأه بقوله‏:‏ ‏{‏اقرأ‏}‏ وأرسله ب ‏{‏يا أيها المدثر‏}‏‏.‏ ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين‏.‏ ثم أنذر قومه‏.‏ ثم أنذر من حولهم من العرب‏.‏ ثم أنذر العرب قاطبة‏.‏ ثم أنذر العالمين‏.‏ فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية؛ ويؤمر بالكف والصبر والصفح‏.‏ ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال‏.‏ ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله‏.‏ ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله‏.‏‏.‏ ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام‏:‏ أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة‏.‏‏.‏ فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم؛ به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده‏.‏‏.‏ ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها‏:‏ فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام‏.‏ وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم‏.‏ فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان‏.‏ وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم‏.‏‏.‏ وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام‏:‏ قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم‏.‏ وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم‏.‏ وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر‏.‏ فإذا انسلخت قاتلهم‏.‏ فقتل الناقض لعهده؛ وأجل من لا عهد له، أو له عهد مطلق، أربعة أشهر‏.‏ وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم‏.‏ وضرب على أهل الذمة الجزية‏.‏‏.‏ إلخ»‏.‏‏.‏

ومن مراجعة هذا التلخيص الجيد، ومراجعة أحداث السيرة، وتاريخ نزول السورة والآيات التي تتضمن هذه الأحكام، يتبين لنا أن آيات سورة الأنفال التي نحن بصددها هنا، تمثل مرحلة وسيطة بين ما كان عليه الحال أول العهد بالمدينة، وما انتهى إليه الحال بعد نزول سورة براءة‏.‏

ويجب أن تدرس هذه النصوص في ضوء هذه الاعتبارات‏.‏‏.‏ ومع أنها تقرر بعض القواعد الأساسية، إلا أنها لا تمثلها في صورتها النهائية‏.‏ فالصورة النهائية تمثلها نصوص سورة براءة، والتطبيقات العملية لها في أواخر حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي‏.‏‏.‏

وفي ضوء هذا البيان نستطيع أن نواجه هذه النصوص القرآنية‏:‏

‏{‏إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون‏.‏ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون‏}‏‏.‏‏.‏

ولفظ ‏{‏الدواب‏}‏ وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض، فيشمل الأناسي فيما يشمل، إلا أنه- كما أسلفنا- يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين‏.‏‏.‏ ظل البهيمة‏.‏‏.‏ ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض‏!‏ وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان‏!‏ وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة‏!‏

وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص‏.‏‏.‏ قيل‏:‏ إنهم بنو قريظة، وقيل‏:‏ إنهم بنو النضير وقيل‏:‏ إنهم بنو قينقاع‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين‏.‏‏.‏ والنص والواقع التاريخي كلاهما يحتمل أن يكونوا هؤلاء جميعاً‏.‏ فلقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طائفة طائفة، كما أنه قد تكرر نقض المشركين لعهودهم أيضاً‏.‏‏.‏ والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالة واقعة قبل بدر وبعدها، إلى حين نزول هذه الآيات‏.‏ ولكن الحكم الصادر فيها، المصور لطبيعة الناقضين للعهد يصور حالة دائمة، ويقرر صفة ثابتة‏.‏‏.‏

فهؤلاء الذين كفروا ولجُّوا في الكفر ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏ ففسدت بذلك فطرتهم، وباتوا بذلك شر الدواب عند الله‏.‏ هؤلاء الذين ينقضون كل عهد أبرموه، فتجردوا بذلك من خصيصة إنسانية أخرى- خصيصة التقيد بالعهد- وانطلقوا من كل قيد، كما تنطلق البهيمة، لولا أن البهيمة مقيدة بضوابط فطرتها، وهؤلاء لا ضابط لهم‏.‏ فهم بذلك شر الدواب عند الله‏!‏

هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم‏.‏‏.‏ جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن؛ وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم، والرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من المسلمين مأمورون- إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال- أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع‏:‏

‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون‏}‏‏.‏‏.‏

وإنه لتعبير عجيب، يرسم صورة للأخذ المفزع، والهول المرعب، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود‏.‏ فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب‏؟‏ إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد، وانطلقوا من ضوابط الإنسان، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد‏.‏

إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة‏.‏ إن هذا الدين لا بد له من هيبة، ولا بد له من قوة، ولا بد له من سطوة، ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل طاغوت‏.‏ والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين‏!‏

وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي؛ وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة‏.‏

فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة؛ وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً‏:‏

‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء‏.‏ إن الله لا يحب الخائنين‏}‏‏.‏‏.‏

إن الإسلام يعاهد ليصون عهده؛ فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية؛ ولم يخن ولم يغدر؛ ولم يغش ولم يخدع؛ وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم‏.‏ فليس بينه وبينهم أمان‏.‏‏.‏ وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة، وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة‏.‏‏.‏ إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ؛ ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم‏.‏‏.‏ فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة، لأن كل خصم قد أخذ حذره؛ فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل‏!‏ وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة‏!‏

إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع؛ ويريد للبشرية أن تعف؛ لا يبيح الغدر في سبيل الغلب؛ وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد؛ ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة‏.‏

إن الإسلام يكره الخيانة، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود؛ ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة‏.‏‏.‏ إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ؛ ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة‏.‏‏.‏ وليس مسلماً من يبرر الوسيلة بالغاية، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية، لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات‏.‏

‏.‏ إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل، فإن الشط الممرع لا بد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية‏.‏‏.‏ من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة‏:‏

‏{‏إن الله لا يحب الخائنين‏}‏‏.‏‏.‏

ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق‏.‏ لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان‏.‏ قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت‏.‏ ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي‏.‏ ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع؛ حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي‏!‏ وعلى الذين يبهرهم «التقدم الفني في صناعة القانون» أن يدركوا حقيقة «الواقع» بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً‏!‏

وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر، ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر‏!‏

‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا، إنهم لا يعجزون‏}‏‏.‏‏.‏

فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق، لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم، ولن يفلت الخائنين لخيانتهم‏.‏ والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم، وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم‏.‏

فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة- متى أخلصوا النية فيها لله- من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة‏.‏ فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض، ويعلون كلمته في الناس، وينطلقون باسمه‏.‏ يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك‏.‏

ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية‏:‏

‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم‏.‏ وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها؛ ويخص ‏{‏رباط الخيل‏}‏ لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة‏.‏‏.‏ ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- والمهم هو عموم التوجيه‏:‏

‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏‏.‏

إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في «الأرض» لتحرير «الإنسان»‏.‏‏.‏ وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة‏:‏ أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها؛ فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها‏.‏‏.‏ والأمر الثاني‏:‏ إن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على «دار الإسلام» التي تحميها تلك القوة‏.‏‏.‏ والأمر الثالث‏:‏ أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» كله في «الأرض»‏:‏ كلها‏.‏‏.‏ والأمر الرابع‏:‏ أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه‏.‏‏.‏

إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب، وتنظيماً للشعائر، ثم تنتهي مهمته‏!‏ إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية‏.‏ فلا مفر للإسلام- لإقرار منهجه الرباني- من تحطيم تلك القوى المادية، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى، وتقاوم المنهج الرباني‏.‏‏.‏

وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة‏.‏‏.‏ ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني‏.‏ ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد‏!‏ إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر؛ ولا لتقرير سلطان زعيم، أو دولة، أو طبقة، أو جنس‏!‏ إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية‏.‏‏.‏ إنما ينطلق من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير؛ ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعبيد‏.‏‏.‏

هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي‏!‏ والجهاد الإسلامي‏.‏

ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة‏.‏ فالنص يقول‏:‏

‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏‏.‏‏.‏

فهي حدود الطاقة إلى أقصاها‏.‏ بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها‏.‏

كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة‏.‏

‏{‏ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم‏}‏‏.‏‏.‏

فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض‏.‏ الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم‏.‏

وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم‏.‏ والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض؛ ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله‏.‏

ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالاً، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله‏:‏

‏{‏وما تنفقوا من شيء- في سبيل الله- يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله، من كل غاية أرضية، ومن كل دافع شخصي؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي، ليتمحض خالصاً لله ‏{‏في سبيل الله‏}‏ لتحقيق كلمة الله، ابتغاء رضوان الله‏.‏

ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه- منذ الوهلة الأولى- كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول‏.‏ وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق‏.‏ وكل حرب تقوم للقهر والإذلال‏.‏ وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن، أو قوم على قوم، أو جنس على جنس، أو طبقة على طبقة‏.‏‏.‏ ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة‏.‏‏.‏ حركة الجهاد في سبيل الله‏.‏‏.‏ والله- سبحانه- لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب‏.‏ إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته‏.‏ وهو غني عن العالمين‏.‏ ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين‏.‏

والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي؛ ويجنحون إلى السلم والمسالمة؛ وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً‏:‏

‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله‏.‏ إنه هو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح، تعبير لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق‏.‏ فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم، ويرخي ريشه في وداعة‏!‏ كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر‏.‏ وفي التوكل عليه الكفاية والأمان‏.‏ +

وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وموقفه كذلك منهم، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يقاتله؛ وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية، ولا للدولة المسلمة‏.‏ وقد أمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يترك هذا الفريق، وأن يقبل مهادنته ومسالمته ‏(‏وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد، أو كان له عهد غير موقت، مدة أربعة أشهر، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه‏)‏ ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات، ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه‏.‏ فقد عمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- به حتى نزلت سورة براءة- ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة‏.‏‏.‏

ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية‏.‏‏.‏ ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي؛ فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر؛ ولم تكن أحكام الجزية موجودة‏.‏ والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي، أن يقال‏:‏ إن هذا الحكم ليس نهائياً؛ وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة ‏(‏التوبة‏)‏ والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام‏:‏ إما محاربين يحاربون‏.‏ وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله‏.‏ وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا‏.‏‏.‏ وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي‏.‏ وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد‏:‏

قال أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن يزيد، عن أبيه، عن يزيد بن الخطيب الأسلمي- رضي الله عنه- «قال‏:‏ كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال‏:‏ اغزوا باسم الله‏.‏ في سبيل الله‏.‏ قاتلوا من كفر بالله‏.‏ إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم‏.‏ ادعهم إلى الإسلام‏.‏ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين‏.‏ وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين‏.‏ فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين‏.‏ ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين‏.‏ فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية‏.‏ فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم‏.‏ فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم»‏.‏

والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين، مع ذكر الجزية‏.‏‏.‏ والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح؛ وبعد الفتح لم تعد هجرة ‏(‏بالقياس إلى الجماعة المسلمة الأولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن‏)‏ والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة؛ وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية‏.‏

ققبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس، وهم مثلهم في الشرك؛ ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم‏.‏ وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد ‏(‏أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك، وروى غيره عن أبي حنيفة‏)‏‏:‏

وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه، أن قول الله تعالى‏:‏

‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة‏.‏ إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين‏.‏ وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة‏.‏ فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية- وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم- أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا؛ ليكون الدين كله لله‏.‏

ولقد استطردت- بعض الشيء- في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن «الجهاد في الإسلام»؛ فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم؛ ويستكثرون على دينهم- الذي لا يدركون حقيقته- أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث‏:‏ الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه؛ وأهله- الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً- ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى؛ كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة؛ ولا حول لهم في الأرض ولا قوة‏.‏‏.‏ وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤولوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله؛ ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته‏!‏

إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية، فيجعلون منها نصوصاً نهائية؛ وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة، فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة؛ حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوص المقيدة المرحلية‏!‏ وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين، وعن دار الإسلام عندما تهاجم‏!‏ وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة‏.‏ والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام‏!‏ إن الإسلام- في حسهم- يتقوقع، أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده- في كل وقت- وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه، ولا بالخضوع لمنهج الله، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان‏!‏ أما القوة المادية- الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس- فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه، فيتحرك حينئذ للدفاع‏!‏

ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر، أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع- دون ليّ لأعناق النصوص- لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم؛ ولاستطاعوا أن يقولوا‏:‏ إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو، ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة؛ إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة‏.‏

وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات‏:‏

* لقد عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة‏.‏ مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش، والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة، أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم، وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً، وأن يوادعهم ما وادعوه‏.‏‏.‏ ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا‏.‏

* ولما كانت غزوة الخندق؛ وتجمع المشركون على المدينة؛ ونقضت بنو قريظة العهد؛ وخاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المسلمين؛ عرض على عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة، وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها‏.‏ وكانت هذه المقالة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لهما مراوضة ولم تكن عقداً‏.‏ فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهما أنهما قد رضيا، استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا‏:‏ يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك‏؟‏ أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع‏؟‏ أو أمر تصنعه لنا‏؟‏ فقال‏:‏ «بل أمر أصنعه لكم، فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» فقال له سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قِرىً‏.‏ فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا‏!‏ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم‏.‏

فسر بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال‏:‏ «أنتم وذاك» وقال لعيينة والحارث‏:‏ «انصرفا، فليس لكما عندنا إلا السيف»‏.‏ فهذا الذي فكر فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إجراء لمواجهة الضرورة‏.‏‏.‏ وليس حكماً نهائياً‏.‏‏.‏

* وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية- وهم على شركهم- بشروط لم يسترح إليها المسلمون، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتىإذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً، وألا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب، وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه، ومن أتاه من أصحاب المشركين رده‏.‏‏.‏‏.‏ وقد رضي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بما ألهمه الله- هذه الشروط، التي تبدو في ظاهرها مجحفة، لأمر يريده الله ألهم به رسوله‏.‏‏.‏ وفيها متسع- على كل حال- لمواجهة الظروف المشابهة؛ تتصرف من خلاله القيادة المسلمة‏.‏

إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة، وهو منهج متحرك مرن، ولكنه متين واضح، والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها‏!‏ وإنما المطلوب هو تقوى الله، والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي، والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع، وهو دين مسيطر حاكم، يلبي- وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة- كل حاجات الواقع وضروراته والحمد لله‏.‏‏.‏

وعندما أمر الله تعالى رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يقبل موادعة من وادعوه، وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه؛ وجهه إلى التوكل عليه، وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة‏:‏

‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم أمنه من خداعهم، إن هم أرادوا خيانته، وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم‏.‏ وقال له‏:‏ إن الله حسبه وكافيه وحافظه؛ وهو الذي أيده بنصره- في بدر- وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام؛ وكانت عصية على التآلف، لا يملك تأليفها إلا الله القدير الحكيم‏:‏

‏{‏وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله، هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

حسبك الله، فهو كافيك، وهو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديداً‏.‏

سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج- وهم الأنصار- فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً‏.‏‏.‏ أو كان المقصود هم المهاجرون، وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية‏.‏‏.‏ أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً‏!‏

ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله؛ والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة؛ فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ؛ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة- أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة-‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين‏}‏ إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً‏.‏ إنها حين تخالط القلوب، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين جاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق، فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب، ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب؛ ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب‏!‏

وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله؛ وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه، فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله، ولا يقدر عليها إلا الله‏.‏

يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى قالوا‏:‏ يا رسول الله تخبرنا من هم‏.‏ قال‏:‏ هم قوم تحابوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور‏.‏ لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس»‏.‏ ‏(‏أخرجه أبو داود‏)‏‏.‏

ويقول- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم، فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحر»‏.‏ ‏(‏رواه الطبراني‏)‏‏.‏

وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب؛ وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته عليه الصلاة والسلام؛ كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة، ولا مجرد أعمال مثالية فردية؛ إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت، بإذن الله، الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه‏.‏

بعد ذلك يمضي السياق يطمئن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والعصبة المسلمة من ورائه، إلى ولاية الله- سبحانه- له ولها؛ وهو حسبه وحسبها؛ ثم يأمره بتحريض المؤمنين على القتال في سبيل الله؛ فهم أكفاء لعشرة أمثالهم ممن لا يفقهون فقههم؛ وهم على الأقل أكفاء لمثليهم في أضعف الحالات‏:‏

‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏.‏

يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا، بأنهم قوم لا يفقهون‏.‏ الآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين‏}‏‏.‏‏.‏

ويقف الفكر ليستعرض القوة التي لا راد لها، ولا معقب عليها- قوة الله القوي العزيز- وأمامها تلك القوة الضئيلة العاجزة الهزيلة- التي تتصدى لكتائب الله- فإذا الفرق شاسع، والبون بعيد‏.‏ وإذا هي معركة مضمونة العاقبة، معروفة النهاية، مقررة المصير‏.‏‏.‏ وهذا كله يتضمنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

ومن ثم يأتي الأمر بتحريض المؤمنين على القتال- في سبيل الله- وقد تهيأت كل نفس، واستعد كل قلب وشد كل عصب، وتحفز كل عرق؛ وانسكبت في القلوب الطمأنينة والثقة واليقين‏:‏

‏{‏يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال‏}‏‏.‏‏.‏

حرضهم وهم لعدوهم وعدو الله كفء، وإن قل عددهم وكثر أعداؤهم وأعداء الله حولهم‏:‏

‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا‏}‏‏.‏‏.‏

فأما تعليل هذا التفاوت فهو تعليل مفاجئ عجيب‏.‏ ولكنه صادق عميق‏:‏

‏{‏بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏‏.‏‏.‏

فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر؛ ولكنها صلة حقيقية، وصلة قوية‏.‏‏.‏ إن الفئة المؤمنة إنما تمتاز بأنها تعرف طريقها، وتفقه منهجها، وتدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتها‏.‏‏.‏ إنها تفقه حقيقية الألوهية وحقيقة العبودية؛ فتفقه أن الألوهية لا بد أن تنفرد وتستعلي، وأن العبودية يجب أن تكون لله وحده بلا شريك‏.‏ وتفقه أنها هي- الأمة المسلمة- المهتدية بهدى الله، المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ وأنها هي المستخلفة عن الله في الأرض؛ الممكنة فيها لا لتستعلي هي وتستمتع؛ ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله؛ ولتعمر الأرض بالحق؛ وتحكم بين الناس بالقسط؛ وتقيم في الأرض مملكة الله التي تقوم على العدل بين الناس‏.‏‏.‏ وكل ذلك فقه يسكب في قلوب العصبة المسلمة النور والثقة والقوة واليقين؛ ويدفع بها إلى إلجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة‏.‏ بينما أعداؤها ‏{‏قوم لا يفقهون‏}‏‏.‏ قلوبهم مغلقة، وبصائرهم مطموسة؛ وقوتهم كليلة عاجزة مهما تكن متفوقة ظاهرة‏.‏ إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير‏!‏

وهذه النسبة‏.‏

‏.‏ واحد لعشرة‏.‏‏.‏ هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون‏.‏‏.‏ وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي‏:‏ واحد لاثنين‏:‏

‏{‏الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين‏}‏‏.‏‏.‏

وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة، وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف‏.‏‏.‏ وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها‏.‏‏.‏ فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق؛ وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم، وتثبت أقدامهم؛ وليست أحكاماً تشريعية- فيما نرجح- والله أعلم بما يريد‏.‏

ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى- بمناسبة تصرف الرسول صلى لله عليه وسلم والمسلمين في أسرى بدر- وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة‏:‏

‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم‏.‏ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم، فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً، واتقوا الله، إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏

‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى، إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم‏.‏ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم، والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

قال ابن إسحاق- وهو يقص أخبار الغزوة-‏:‏ «فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي، في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم‏!‏ «قال‏:‏ أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال‏!‏

وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم- قال‏:‏ لما كان يومئذ التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً، واستشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر وعلياً‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لناعضداً‏.‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «ما ترى يا ابن الخطاب‏؟‏» قال قلت‏:‏ والله ما أرى رأي أبي بكر، ولكني أرى أن تمكني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل ‏(‏ابن أبي طالب‏)‏ فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم‏!‏‏.‏‏.‏ فهوى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء‏.‏‏.‏ فلما كان من الغد- قال عمر- فغدوت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وهما يبكيان‏.‏ فقلت‏:‏ ما يبكيك أنت وصاحبك‏؟‏ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما‏!‏ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء‏.‏ لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة»- لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلكوا مما غنمتم حلالاً طيباً‏}‏ فأحل لهم الغنائم‏.‏‏.‏‏.‏ ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن هاشم، عن حميد، عن أنس- رضي الله عنه- قال‏:‏ استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال‏:‏ «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا رسول الله اضرب أعناقهم‏.‏ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس» فقام عمر فقال‏:‏ يا رسول الله، اضرب أعناقهم‏.‏ فأعرض عنه النبي صلى لله عليه وسلم، فقال للناس مثل ذلك‏.‏ فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال‏:‏ يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء‏.‏ قال‏:‏ فذهب عن وجه رسول الله- صلى لله عليه وسلم- ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء‏.‏ قال‏:‏ وأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

وقال الأعمش، عن عمر بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال‏:‏ لما كان يوم بدر قال رسول الله- صلى لله عليه وسلم-‏:‏

«ما تقولون في الأسارى‏؟‏» فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم‏.‏‏.‏ وقال عمر‏:‏ يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم‏.‏‏.‏ وقال عبد الله بن رواحة‏:‏ يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب‏.‏ فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه‏!‏ فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليهم شيئاً‏.‏ ثم قام فدخل‏.‏ فقال ناس‏:‏ يأخذ بقول أبي بكر‏.‏ وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول عمر‏.‏ وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول عبد الله بن رواحة‏.‏ ثم خرج عليهم رسول الله- صلى لله عليه وسلم- فقال‏:‏ «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏ وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏‏.‏ وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏‏.‏ وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏‏.‏ أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق» قال ابن مسعود‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام‏!‏ فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «إلا سهيل بن بيضاء» فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به، والحاكم في مستدركه وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏)‏‏.‏

والإثخان المقصود‏:‏ التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين، وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر‏.‏ فعاتب الله المسلمين فيه‏.‏

لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين‏.‏ وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة‏.‏ وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين‏.‏ وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء‏.‏

وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب‏.‏

‏.‏ ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول‏:‏ «وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين»‏.‏‏.‏

لهذين السببين البارزين نحسب- والله أعلم- أن الله- سبحانه- كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال‏.‏ ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص- وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف- قال الله تعالى‏:‏

‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏

ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى‏:‏

‏{‏تريدون عرض الدنيا‏}‏‏.‏‏.‏

أي‏:‏ فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم؛ وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم‏!‏

‏{‏والله يريد الآخرة‏}‏‏.‏‏.‏

والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله، فهو خير وأبقى، والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا‏!‏

‏{‏والله عزيز حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

قدر لكم النصر، وأقدركم عليه، لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين ‏{‏ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون‏}‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون؛ فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم‏!‏

ثم زادهم الله فضلاً ومنة؛ فجعل غنائم الحرب حلالاً لهم- ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها- وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل- مذكراً إياهم بتقوى الله، وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته، لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم، فلا تغرهم المغفرة والرحمة، ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة‏:‏

‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً، واتقوا الله، إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يلمس قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء، وتطلق فيها الأمل، وتشيع فيها النور، وتعلقها بمستقبل خير من الماضي، وبحياة أكرم مما كانوا فيه، وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار‏.‏ وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله‏:‏

‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى‏:‏ إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان؛ فيعلم الله أن فيها خيراً‏.‏‏.‏ والخير هو الإيمان حتى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص‏.‏ الخير محض الخير، والذي لا يسمى شيء ما خيراً إلا أن يستمد منه وينبثق منه ويقوم عليه‏.‏

إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه، ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح، وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى‏.‏ لا ليستذلهم انتقاماً، ولا ليسخرهم استغلالاً، كما كانت تتجه فتوحات الرومان؛ وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام‏!‏

عن الزهري عن جماعة سماهم قال‏:‏ بعثت قريش في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا‏.‏

وقال العباس‏:‏ يا رسول الله قد كنت مسلماً‏!‏ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل ابن الحارث ابن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحاراث بن فهر» قال‏:‏ ما ذاك عندي يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، قلت لها‏:‏ إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم‏؟‏» قال «والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله‏.‏ إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل‏.‏ فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني- عشرين أوقية من مال كان معي‏!‏- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏» لا‏.‏ ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك «ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ما أخذ منكم، ويغفر لكم، والله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏ قال العباس فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل‏.‏

وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم، يحذرهم خيانة الرسول- صلى الله عليه وسلم- كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير‏:‏

‏{‏وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم، والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد خانوا الله فأشركوا به غيره، ولم يفردوه سبحانه بالربوبية، وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده‏.‏ فإن أرادوا خيانة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهم أسرى في يديه، فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر، ومكنت منهم رسول الله وأولياءه‏.‏‏.‏ والله ‏{‏عليم‏}‏ بسرائرهم ‏{‏حكيم‏}‏ في إيقاع العقاب بهم‏:‏

‏{‏والله عليم حكيم‏}‏‏.‏‏.‏

قال القرطبي في التفسير، قال ابن العربي‏:‏ لما أسر من أسر من المشركين، تكلم قوم منهم بالإسلام، ولم يمضوا فيه عزيمة، ولا اعترفوا به اعترافاً جازماً‏.‏ ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين- قال علماؤنا‏:‏ إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمناً‏.‏ وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً‏.‏ إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها‏.‏ وقد بين الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم- الحقيقة فقال‏:‏ ‏{‏وإن يريدوا خيانتك‏}‏‏.‏

أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكراً ‏{‏فقد خانوا الله من قبل‏}‏ بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك‏.‏ وإن كان هذا القول منهم خيراً، ويعلمه الله، فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيراً ما خرج عنهم‏:‏ ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم‏.‏

وأخيراً يختم هذا الدرس، وتختم السورة معه، ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم، وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى؛ وبيان الأحكام المنظمة لهذه العلاقات وتلك؛ ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته؛ والقاعدة التي ينطلق منها والتي يقوم عليها كذلك‏.‏‏.‏ إنها ليست علاقات الدم، ولا علاقات الأرض، ولا علاقات الجنس، ولا علاقات التاريخ، ولا علاقات اللغة، ولا علاقات الاقتصاد‏.‏‏.‏ ليست هي القرابة، وليست هي الوطنية، وليست هي القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية‏.‏‏.‏ إنما هي علاقة العقيدة، وعلاقة القيادة، وعلاقة التنظيم الحركي‏.‏‏.‏ فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام، متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله؛ والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد، أولئك بعضهم أولياء بعض‏.‏‏.‏ والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية؛ لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة، ولم يدينوا بعد للقيادة؛ ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد‏.‏‏.‏ وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره‏.‏‏.‏ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك‏.‏‏.‏ هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات، كما تصورها هذه النصوص الحاسمة‏:‏

‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض‏.‏ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏.‏ وإن استنصروكم‏.‏‏.‏ في الدين‏.‏‏.‏ فعليكم النصر- إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق- والله بما تعملون بصير‏.‏ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏.‏‏.‏ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏.‏‏.‏ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم‏.‏ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏.‏ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر، كانت ولاية توارث وتكافل في الديات وولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة‏.‏‏.‏ حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة، ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم، داخل المجتمع المسلم‏.‏‏.‏ فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية- العامة والخاصة- فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام- لمن استطاع- فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا، استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين، فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية، كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات، وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة‏.‏

‏.‏ وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم- إن استنصروهم في الدين خاصة- على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد، لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية‏!‏

ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي، وقيمه الأساسية‏.‏ ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية؛ والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها؛ ومنهجه الحركي والتزاماته‏:‏

إن الدعوة الإسلامية- على يد محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام‏.‏‏.‏ وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً‏:‏ هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق؛ وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق‏.‏‏.‏ ولم يكن الناس- فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة- ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله أَلبتة؛ إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق، أو يشركون مع الله آلهة أخرى‏:‏ إما في صورة الاعتقاد والعبادة؛ وإما في صورة الحاكمية والاتباع؛ وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله، الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول، ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد، ويرتدون إلى الجاهلية، التي أخرجهم منها، ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى‏.‏‏.‏ إما في الاعتقاد والعبادة، وإما في الاتباع والحاكمية، وإما فيها جميعاً‏.‏‏.‏

هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري‏.‏‏.‏ إنها تستهدف «الإسلام»‏.‏‏.‏ إسلام العباد لرب العباد؛ وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم، إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة‏.‏‏.‏ وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم، كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله‏.‏‏.‏ جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس؛ فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده؛ فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله‏.‏ بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم‏.‏ فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم؛ كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها؛ وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله؛ كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه‏.‏

‏.‏ ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم؛ فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شؤون هذه الحياة، تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني‏.‏‏.‏

ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني؛ والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري‏.‏‏.‏ هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده‏.‏ والتي واجهها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بدعوته‏.‏‏.‏ هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في «نظرية» مجردة‏.‏ بل ربما أحياناً لم تكن لها «نظرية» على الإطلاق‏!‏ إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي‏.‏ متمثلة في مجتمع، خاضع لقيادة هذا المجتمع، وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك- بإرادة واعية أو غير واعية- للمحافظة على وجوده؛ والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد‏.‏

ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في «نظرية» مجردة، ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو؛ فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية، ورد الناس إلى الله مرة أخرى، لا يجوز- ولا يجدي شيئاً- أن تتمثل في «نظرية» مجردة‏.‏ فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمتمثلة في تجمع حركي عضوي، فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل، لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته‏.‏ بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً‏.‏

والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام- على مدار التاريخ البشري- هي قاعدة‏:‏ «شهادة أن لا إله إلا الله»‏.‏ أي إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية‏.‏‏.‏ إفراده بها اعتقاداً في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة‏.‏ فشهادة أن لا إله إلا الله، لا توجد فعلاً؛ ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم‏.‏‏.‏

ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية‏.‏‏.‏ أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها، ولا في أي جانب من جوانبها، من عند أنفسهم؛ بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه‏.‏

‏.‏ وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه؛ وهو رسول الله‏.‏‏.‏ وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول‏:‏ «شهادة أن محمداً رسول الله»‏.‏

هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها- وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها؛ يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية، في داخل دار الإسلام وخارجها؛ في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى‏.‏‏.‏

ولكن الإسلام- كما قلنا- لم يكن يملك أن يتمثل في «نظرية» مجردة؛ ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة؛ ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً‏.‏ فإن وجودهم على هذا النحو- مهما كثر عددهم- لا يمكن أن يؤدي إلى «وجود فعلي» للإسلام‏.‏ لأن الأفراد «المسلمين نظرياً» الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية‏.‏ سيتحركون طوعاً أو كرهاً، بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه؛ وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه؛ لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا‏.‏‏.‏ أي أن الأفراد «المسلمين نظرياً» سيظلون يقومون «فعلاً» بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون «نظرياً» لإزالته؛ وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد‏!‏ وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى، وذلك بدلاً من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي، لإقامة المجتمع الإسلامي‏!‏

ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام ‏(‏أي العقيدة‏)‏ في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى‏.‏‏.‏ لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه‏.‏ وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته- وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي- أي التجمع الذي جاء منه- ومن قيادة ذلك التجمع- في أية صورة كانت، سواء كانت في صورة قيادة دينية، من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم، أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش، وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة‏.‏

لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام، ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله‏.‏ لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا‏.‏ لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم؛ لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون؛ له وجود ذاتي مستقل، يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً- كأعضاء الكائن الحي- على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه؛ وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه‏.‏ ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه، وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي‏.‏ ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي‏.‏

وهكذا وجد الإسلام‏.‏‏.‏ هكذا وجد متمثلاً في قاعدة نظرية مجملة- ولكنها شاملة- يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع‏.‏‏.‏ ولم يوجد قط في صورة «نظرية» مجردة عن هذا الوجود الفعلي‏.‏‏.‏ وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى‏.‏‏.‏ ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان، بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية‏.‏

وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية؛ وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع- ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة، في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين- بطبقاتهم- والذين آووا ونصروا؛ وعلاقاته مع الذين آمنوا ولم يهاجروا؛ وعلاقاته مع الذين كفروا‏.‏‏.‏ إنها كلها تقوم على أساس ذلك الفقه بطبيعة النشأة العضوية الحركية للمجتمع الإسلامي‏.‏

ونستطيع الآن أن نواجه هذه النصوص والأحكام الواردة فيها‏:‏

‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض‏.‏ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏.‏ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر- إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق- والله بما تعملون بصير‏.‏ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏.‏‏.‏ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏‏.‏‏.‏

لقد انخلع كل من قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله في مكة من الولاء لأسرته، والولاء لعشيرته، والولاء لقبيلته، والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش؛ وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته‏.‏ في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد- الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية- يحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته‏.‏

عندئذ آخى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم- بين أعضاء هذا التجمع الوليد‏.‏‏.‏ أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفراداً، إلى «مجتمع» متكافل، تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب؛ ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية، ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق‏.‏

ثم لما فتح الله للمسلمين دار الهجرة في المدينة؛ بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وحماية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم؛ وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد رسول الله فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها‏.‏ بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة‏.‏‏.‏ وكان حكم الله تعالى‏:‏

‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض‏}‏‏.‏‏.‏

أولياء في النصرة، وأولياء في الإرث، وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات‏.‏

ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة؛ ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلاً‏.‏‏.‏ لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة؛ ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله؛ ويحقق فيها وجوده الكامل؛ بعدما تحقق له وجوده في مكة نسبياً، بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي، مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز‏.‏

وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة‏.‏ يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة؛ ولا يدينون فعلاً دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه‏.‏‏.‏

وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم؛ ولم يجعل الله لهم ولاية- بكل أنواع الولاية- مع هذا المجتمع، لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي‏.‏ وفي هؤلاء نزل هذا الحكم‏:‏

‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏.‏ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين- التي أسلفنا- ومع منهجه الحركي الواقعي‏.‏ فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم؛ ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية‏.‏‏.‏ ولكن هناك رابطة العقيدة؛ وهذه لا ترتب- وحدها- على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد؛ اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم؛ فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم‏.‏

فإذا استنصروا المسلمين- في دار الإسلام- في مثل هذا، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها‏.‏ على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر‏.‏ ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم‏!‏ ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود‏.‏ فهذه لها الرعاية أولاً، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي‏.‏

‏.‏‏.‏ وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي‏.‏‏.‏

والتعقيب على هذا الحكم‏:‏

‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏‏.‏‏.‏

فكل عملكم تحت بصره- سبحانه- يرى مداخله ومخارجه، ومقدماته ونتائجه، وبواعثه وآثاره‏.‏

وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد، فكذلك المجتمع الجاهلي‏:‏

‏{‏والذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏}‏‏.‏‏.‏

إن الأمور بطبيعتها كذلك- كما أسلفنا‏.‏ إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد؛ إنما يتحرك ككائن عضوي، تندفع أعضاؤه، بطبيعة وجوده وتكوينه، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه‏.‏ فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً‏.‏‏.‏ ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى‏.‏ فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي- لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً- وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده‏.‏ ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام؛ وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله؛ ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى‏.‏ وهو أفسد الفساد‏:‏

‏{‏إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏‏.‏‏.‏

ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير‏.‏‏.‏ والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام الله- فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها- تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير‏.‏

ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة‏:‏

‏{‏والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم‏}‏‏.‏‏.‏

أولئك هم المؤمنون حقاً‏.‏‏.‏ فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان‏.‏‏.‏ هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين‏.‏‏.‏ إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية؛ ولا بمجرد اعتناقها؛ ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها‏.‏‏.‏ إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي، إلا إذا تمثل في تجمع حركي‏.‏

‏.‏ أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي، لا يصبح ‏(‏حقاً‏)‏ إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية‏.‏‏.‏

وهؤلاء المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم‏.‏‏.‏ والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله‏.‏‏.‏ وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم‏.‏ بل هي أكرم الرزق الكريم‏.‏

ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد- وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى- إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي‏:‏

‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة؛ حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه‏.‏ فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل‏.‏ كما قال رسول الله-- صلى الله عليه وسلم- غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً؛ لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام، وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه‏.‏‏.‏ فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية؛ وارتفع حكم الله- سبحانه- عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها‏.‏‏.‏ الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام- كالجولة الأولى- تأخذ- في التنظيم- كل أحكامها المرحلية، حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة؛ ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى- بإذن الله- فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل؛ كما حدث في الجولة الأولى‏.‏‏.‏

ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة، وتكاليفها الخاصة‏.‏‏.‏ قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم، في كل صوره وأشكاله، وفي كل التزاماته ومقتضياته‏.‏ بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم‏.‏‏.‏ فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية اللازمة لعملية البناء الأولى، المواجهة لتكاليفها الاستثنائية‏.‏ وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة- ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام‏:‏

‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏‏.‏‏.‏

فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام، من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام‏.‏‏.‏ إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية‏.‏ ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي‏.‏‏.‏ إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية؛ ولكنه يضبطها‏.‏ يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي؛ فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها- في إطاره العام‏.‏

ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة، التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام، التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية‏.‏‏.‏ وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى؛ وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى‏.‏‏.‏

‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر، وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها‏.‏ فهي من العلم المحيط بكل شيء‏.‏ علم الله تعالى‏.‏‏.‏

وبعد فإن الإسلام- وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج؛ ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي؛ ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة- إنما كان يستهدف إبراز «إنسانية الإنسان» وتقويتها وتمكينها، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني‏.‏ وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه‏.‏‏.‏

إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية- بل الكائنات المادية- في صفات توهم أصحاب «الجهالة العلمية‏!‏» مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان؛ ومرة بأنه مادة كسائر المواد‏!‏ ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه «الصفات» مع الحيوان ومع المادة له «خصائص» تميزه وتفرده؛ وتجعل منه كائناً فريداً- كما اضطر أصحاب «الجهالة العلمية‏!‏» أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة‏!‏

والإسلام- بمنهجه الرباني- يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز «الإنسان» وتفرده بين الخلائق، فيبرزها وينميها ويعليها‏.‏‏.‏ وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي، التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة، إنما يمضي على خطته تلك‏.‏ فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في «الإنسان» من «خصائص»‏.‏‏.‏

إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب، ولا اللغة، ولا الأرض، ولا الجنس، ولا اللون، ولا المصالح، ولا المصير الأرضي المشترك‏.‏‏.‏ فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان‏.‏ وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع، وإلى اهتمامات القطيع، وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع‏!‏ أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده، ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً؛ كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله، ومصيره ومصير الكون من حوله؛ وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق؛ والذي يقرر «إنسانيته» في أعلى مراتبها؛ حيث يخلف وراءه سائر الخلائق‏.‏

ثم إن هذه الآصرة- آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج- هي آصرة حرة؛ يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية‏.‏ فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها‏.‏

‏.‏ إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه؛ ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه؛ ولا تغيير اللون الذي ولد به‏.‏ فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد، لم يكن له فيها اختيار، ولا يملك فيها حيلة‏.‏‏.‏ كذلك مولده في أرض بعينها، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين- ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره- كلها مسائل عسيرة التغيير؛ ومجال «الإرادة الحرة» فيها محدود‏.‏‏.‏ ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني‏.‏‏.‏ فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج، فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره؛ وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته؛ فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه، أو الأرض التي ولد فيها، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره‏.‏

‏.‏‏.‏ وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي‏.‏‏.‏

ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة‏!‏ ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان‏.‏‏.‏ كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة‏!‏ وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها؛ وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت؛ وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة؛ وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة‏.‏ على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان‏.‏

لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق‏:‏ العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر الأقوام والأجناس‏.‏ وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية‏.‏ ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما «عربية»‏:‏ إنما كانت دائماً «إسلامية»‏.‏ ولم تكن يوماً ما «قومية» إنما كانت دائماً «عقيدية»‏.‏‏.‏

ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة‏.‏‏.‏ فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم؛ وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة؛ وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد؛ وتبرز فيها «إنسانيتهم» وحدها بلا عائق‏.‏

‏.‏ وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ‏!‏‏.‏‏.‏

لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً‏.‏ فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة؛ ولغات متعددة، وأرضين متعددة‏.‏‏.‏ ولكن هذا كله لم يقم على آصرة «إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة‏.‏‏.‏ لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني- بصفة عامة- وعبودية سائر الأجناس الأخرى‏.‏‏.‏ ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي، ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي‏.‏

كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى‏.‏‏.‏ تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً‏.‏‏.‏ ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه‏!‏ تجمعاً قومياً استغلالياً؛ يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية‏.‏‏.‏ ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها‏:‏ الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية‏.‏‏.‏ وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت‏!‏

وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون‏.‏ ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة‏.‏ إنما أقامته على القاعدة «الطبقية»‏.‏‏.‏ فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم‏.‏‏.‏ هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف»؛ وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» ‏(‏البروليتريا‏)‏ والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى‏!‏

وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني‏.‏‏.‏ فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس»- وهي مطالب الحيوان الأولية- وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام‏!‏‏!‏‏!‏

لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني‏.‏‏.‏ وما يزال مفرداً‏.‏‏.‏ والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة‏.‏ إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً‏!‏ هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق‏.‏‏.‏ وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار؛ ويعملون ضد خط الصعود الإنساني؛ ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه «البهائم» من الحظيرة والكلأ‏!‏ بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه «الناس»‏!‏

وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية، وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة؛ وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها؛ لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة‏.‏

‏.‏ خصيصة الإنسان العليا‏.‏‏.‏

ولكن الله غالب على أمره‏.‏‏.‏ وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء‏.‏‏.‏ وسيكون ما يريده الله حتماً‏.‏‏.‏ وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها‏.‏ والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق‏.‏ وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام‏.‏‏.‏